فصل: تفسير الآيات رقم (30- 68)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة يس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 29‏]‏

‏{‏يس ‏(‏1‏)‏ وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏3‏)‏ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏4‏)‏ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏5‏)‏ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ‏(‏6‏)‏ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ‏(‏11‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏12‏)‏ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ‏(‏15‏)‏ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏18‏)‏ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏20‏)‏ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏22‏)‏ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ‏(‏23‏)‏ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ‏(‏25‏)‏ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏27‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة‏.‏ وإيقاعات سريعة‏.‏ ومن ثم جاء عدد آياتها ثلاثاً وثمانين، بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها سورة فاطر وعدد آياتها خمس وأربعون‏.‏

وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص، فتتلاحق إيقاعاتها، وتدق على الحس دقات متوالية، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها‏.‏ وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار‏.‏

والموضوعات الرئيسية للسورة هي موضوعات السور المكية‏.‏ وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة‏.‏ فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة منذ افتتاحها‏:‏ ‏{‏يس‏.‏ والقرآن الحكيم‏.‏ إنك لمن المرسلين‏.‏ على صراط مستقيم‏.‏ تنزيل العزيز الرحيم‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة؛ وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه‏.‏ وقرب نهاية السورة تعود إلى الموضوع ذاته‏:‏ ‏{‏وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين‏}‏ كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية‏.‏ فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليحاج قومه في شأن المرسلين وهو يقول‏:‏ ‏{‏وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون‏؟‏ أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون‏؟‏ إني إذاً لفي ضلال مبين‏}‏‏.‏‏.‏ وقرب ختام السورة يجيء ذكر هذا الموضوع مرة أخرى‏:‏ ‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون‏.‏ لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون‏}‏ والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور، وهي تتردد في مواضع كثيرة في السورة‏.‏ تجيء في أولها‏:‏ ‏{‏إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين‏}‏‏.‏‏.‏ وتأتي في قصة أصحاب القرية، فيما وقع للرجل المؤمن‏.‏ وقد كان جزاؤها العاجل في السياق‏:‏ ‏{‏قيل‏:‏ ادخل الجنة‏.‏ قال‏:‏ يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين‏}‏‏.‏‏.‏ ثم ترد في وسط السورة‏:‏ ‏{‏ويقولون‏:‏ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏؟‏ ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون‏}‏ ثم يستطرد السياق إلى مشهد كامل من مشاهد القيامة‏.‏ وفي نهاية السورة ترد هذه القضية في صورة حوار‏:‏ ‏{‏وضرب لنا مثلاُ ونسي خلقه‏.‏ قال‏:‏ من يحيي العظام وهي رميم‏؟‏ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم‏}‏ هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها، تتكرر في السور المكية‏.‏ ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة، تحت ضوء معين، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها‏.‏

هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة بصفة خاصة ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها‏.‏ ومن مصارع الغابرين على مدار القرون‏.‏ ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية‏:‏ مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة‏.‏ ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام‏.‏ ومشهد الشمس تجري لمستقر لها‏.‏ ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم‏.‏ ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين‏.‏ ومشهد الأنعام مُسخّرة للآدميين‏.‏ ومشهد النطفة ثم مشهدها إنساناً وهو خصيم مبين‏!‏ ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون‏!‏

وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه‏:‏ منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون؛ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون‏}‏‏.‏ ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم الله لا يداريها منه ستار‏.‏‏.‏ ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة لا تزيد‏:‏ ‏{‏إنما أمره إذا أرد شيئاً أن يقول له‏:‏ كن‏.‏ فيكون‏}‏ وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود‏.‏

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط‏:‏

يبدأ الشوط الأول بالقسم بالحرفين‏:‏ «يا‏.‏ سين» وبالقرآن الحكيم، على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه على صراط مستقيم‏.‏ يتلو ذلك الكشف عن النهاية البائسة للغافلين الذين يكذبون‏.‏ وهي حكم الله عليهم بألا يجدوا إلى الهداية سبيلاً، وأن يحال بينهم وبينها أبداً‏.‏ وبيان أن الإنذار إنما ينفع من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب؛ فاستعد قلبه لاستقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان‏.‏‏.‏ ثم يوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يضرب لهم مثلاً أصحاب القرية، فيقص قصة التكذيب وعاقبة المكذبين‏.‏ كما يعرض طبيعة الإيمان في قلب الرجل المؤمن وعاقبة الإيمان والتصديق‏.‏‏.‏

ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بنداء الحسرة على العباد الذين ما يفتأون يكذبون كل رسول ويستهزئون به‏.‏ غير معتبرين بمصارع المكذبين، ولا متيقظين لآيات الله في الكون وهي كثير‏.‏‏.‏ وهنا يعرض تلك المشاهد الكونية التي سبقت الإشارة إليها في تقديم السورة، كما يعرض مشهداً مطولاً من مشاهد القيامة فيه الكثير من التفصيل‏.‏

والشوط الثالث يكاد يلخص موضوعات السورة كلها‏.‏ فينفي في أوله أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم شعر، وينفي عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلاً‏.‏ ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المنفردة، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة‏!‏‏.‏ ويتناول قضية البعث والنشور فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة‏!‏ ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكمن فيه النار وهما في الظاهر بعيد من بعيد‏!‏ وبخلق السماوات والأرض وهو شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة‏.‏

‏.‏ وأخيراً يجيء الإيقاع الأخير في السورة‏:‏ ‏{‏إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له‏:‏ كن‏.‏ فيكون‏.‏ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون‏}‏‏.‏

والآن نأخذ بعد هذا العرض المجمل في التفصيل‏.‏‏.‏

‏{‏يس‏.‏ والقرآن الحكيم‏.‏ إنك لمن المرسلين‏.‏ على صراط مستقيم‏.‏ تنزيل العزيز الرحيم‏.‏ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون‏.‏ لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون‏.‏ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون‏.‏ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون‏.‏ وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏.‏ إنما تنذر من اتبع الذكر، وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم‏.‏ إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين‏}‏‏.‏‏.‏

يقسم الله سبحانه بهذين الحرفين‏:‏ «يا‏.‏ سين» كما يقسم بالقرآن الحكيم‏.‏ وهذا الجمع بين الأحرف المقطعة والقرآن يرجح الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور؛ والعلاقة بين ذكرها وذكر القرآن‏.‏ وأن آية كونه من عند الله، الآية التي لا يتدبرونها فيردهم القرآن إليها، أنه مصوغ من جنس هذه الأحرف الميسرة لهم؛ ولكن نسقه التفكيري والتعبيري فوق ما يملكون صياغته من هذه الحروف‏.‏

ويصف القرآن وهو يقسم به بأنه ‏{‏القرآن الحكيم‏}‏‏.‏ والحكمة صفة العاقل‏.‏ والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والقصد والإرادة‏.‏ وهي من مقتضيات أن يكون حكيماً‏.‏ ومع أن هذا مجاز إلا أنه يصور حقيقة ويقربها‏.‏ فإن لهذا القرآن لروحاً‏!‏ وإن له لصفات الحي الذي يعاطفك وتعاطفه حين تصفي له قلبك وتصغي له روحك‏!‏ وإنك لتطلع منه على دخائل وأسرار كلما فتحت له قلبك وخلصت له بروحك‏!‏ وإنك لتشتاق منه إلى ملامح وسمات، كما تشتاق إلى ملامح الصديق وسماته، حين تصاحبه فترة وتأنس به وتستروح ظلاله‏!‏ ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره؛ ويقف على الأبواب ينصت إذا سمع من داخلها من يرتل هذا القرآن‏.‏ كما يقف الحبيب وينصت لسيرة الحبيب‏!‏

والقرآن حكيم‏.‏ يخاطب كل أحد بما يدخل في طوقه‏.‏ ويضرب على الوتر الحساس في قلبه‏.‏ ويخاطبه بقدر‏.‏ ويخاطبه بالحكمة التي تصلحه وتوجهه‏.‏

والقرآن حكيم‏.‏ يربي بحكمة، وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم‏.‏ منهج يطلق طاقات البشر كلها مع توجيهها الوجه الصالح القويم‏.‏ ويقرر للحياة نظاماً كذلك يسمح بكل نشاط بشري في حدود ذلك المنهج الحكيم‏.‏

يقسم الله سبحانه بياء وسين والقرآن الحكيم على حقيقة الوحي والرسالة إلى الرسول الكريم‏:‏

‏{‏وإنك لمن المرسلين على صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏

وما به سبحانه من حاجة إلى القسم‏.‏ ولكن هذا القسم منه جل جلاله بالقرآن وحروفه، يخلع على المقسم به عظمة وجلالاً، فما يقسم الله سبحانه إلا بأمر عظيم، يرتفع إلى درجة القسم به واليمين‏!‏

‏{‏إنك لمن المرسلين‏}‏‏.‏‏.‏ والتعبير على هذا النحو يوحي بأن إرسال الرسل أمر مقرر، له سوابق مقررة‏.‏ فليس هو الذي يراد إثباته‏.‏ إنما المراد أن يثبت هو أن محمداً صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المرسلين‏.‏ ويخاطبه هو بهذا القسم ولا يوجهه إلى المنكرين المكذبين ترفعاً بالقسم وبالرسول وبالرسالة عن أن تكون موضع جدل أو مناقشة‏.‏ إنما هو الإخبار المباشر من الله للرسول‏.‏

‏{‏إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا بيان لطبيعة الرسالة بعد بيان حقيقة الرسول‏.‏ وطبيعة هذه الرسالة الاستقامة‏.‏ فهي قائمة كحد السيف لا عوج فيها ولا انحراف، ولا التواء فيها ولا ميل‏.‏ الحق فيها واضح لا غموض فيه ولا التباس‏.‏ ولا يميل مع هوى ولا ينحرف مع مصلحة‏.‏ يجده من يطلبه في يسر وفي دقة وفي خلوص‏.‏

وهي لاستقامتها بسيطة لا تعقيد فيها ولا لف ولا دوران‏.‏ لا تعقد الأمور ولا توقع في إشكالات من القضايا والتصورات والأشكال الجدلية‏.‏ وإنما تصدع بالحق في أبسط صورة من صوره، وأعراها عن الشوائب والأخلاط، وأغناها عن الشرح، وتفصيص العبارات وتوليد الكلمات، والدخول بالمعاني في الدروب والمنحنيات‏!‏ يمكن أن يعيش بها ومعها البادي والحاضر، والأمي والعالم، وساكن الكوخ وساكن العمارة؛ ويجد فيها كل حاجته؛ ويدرك منها ما تستقيم به حياته ونظامه وروابطه في يسر ولين‏.‏

وهي مستقيمة مع فطرة الكون وناموس الوجود، وطبيعة الأشياء والأحياء حول الإنسان، فلا تصدم طبائع الأشياء، ولا تكلف الإنسان أن يصدمها، إنما هي مستقيمة على نهجها، متناسقة معها، متعاونة كذلك مع سائر القوانين التي تحكم هذا الوجود وما فيه ومن فيه‏.‏

وهي من ثم مستقيمة على الطريق إلى الله، واصلة إليه موصلة به، لا يخشى تابعها أن يضل عن خالقه، ولا أن يلتوي عن الطريق إليه‏.‏ فهو سالك درباً مستقيماً واصلاً ينتهي به إلى رضوان الخالق العظيم‏.‏

والقرآن هو دليل هذا الصراط المستقيم‏.‏ وحيثما سار الإنسان معه وجد هذه الاستقامة في تصويره للحق، وفي التوجيه إليه، وفي أحكامه الفاصلة في القيم، ووضع كل قيمة في موضعها الدقيق‏.‏

‏{‏تنزيل العزيز الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

يعرّف الله عباده بنفسه في مثل هذه المواضع، ليدركوا حقيقة ما نزّل إليهم‏.‏ فهو العزيز القوي الذي يفعل ما يريد‏.‏ وهو الرحيم بعباده الذي يفعل بهم ما يفعل، وهو يريد بهم الرحمة فيما يفعل‏.‏

فأما حكمة هذا التنزيل فهي الإنذار والتبليغ‏:‏

‏{‏لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون‏}‏‏.‏‏.‏

والغفلة أشد ما يفسد القلوب‏.‏ فالقلب الغافل قلب معطل عن وظيفته‏.‏ معطل عن الالتقاط والتأثر والاستجابة‏.‏ تمر به دلائل الهدى أو يمر بها دون أن يحسها أو يدركها‏.‏ ودون أن ينبض أو يستقبل‏.‏ ومن ثم كان الإنذار هو أليق شيء بالغفلة التي كان فيها القوم، الذين مضت الأجيال دون أن ينذرهم منذر، أو ينبههم منبه‏.‏ فهم من ذرية إسماعيل ولم يكن لهم بعده من رسول‏.‏ فالإنذار قد يوقظ الغافلين المستغرقين في الغفلة، الذين لم يأتهم ولم يأت آباءهم نذير‏.‏

ثم يكشف عن مصير هؤلاء الغافلين؛ وعما نزل بهم من قدر الله، وفق ما علم الله من قلوبهم ومن أمرهم‏.‏ ما كان منه وما سيكون‏:‏

‏{‏لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

لقد قضي في أمرهم، وحق قدر الله على أكثرهم، بما علمه من حقيقتهم، وطبيعة مشاعرهم‏.‏ فهم لا يؤمنون‏.‏ وهذا هو المصير الأخير للأكثرين‏.‏ فإن نفوسهم محجوبة عن الهدى مشدودة عن رؤية دلائله أو استشعارها‏.‏

وهنا يرسم مشهداً حسياً لهذه الحالة النفسية، يصورهم كأنهم مغلولون ممنوعون قسراً عن النظر، محال بينهم وبين الهدى والإيمان بالحواجز والسدود، مغطى على أبصارهم فلا يبصرون‏:‏

‏{‏إنا جعلنا في أعناقهم إغلالاً، فهي إلى الأذقان، فهم مقمحون‏.‏ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً‏.‏ فأغشيناهم فهم لا يبصرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن أيديهم مشدودة بالأغلال إلى أعناقهم، موضوعة تحت أذقانهم‏.‏ ومن ثم فإن رؤوسهم مرفوعة قسراً، لا يملكون أن ينظروا بها إلى الأمام‏!‏ ومن ثم فهم لا يملكون حرية النظر والرؤية وهم في هذا المشهد العنيف‏!‏ وهم إلى هذا محال بينهم وبين الحق والهدى بسد من أمامهم وسد من خلفهم؛ فلو أرخي الشد فنظروا لم تنفذ أبصارهم كذلك من هذه السدود‏!‏ وقد سدت عليهم سبيل الرؤية وأغشيت أبصارهم بالكلال‏!‏

ومع عنف هذا المشهد الحسي وشدته فإن الإنسان ليلتقي بأناس من هذا النوع، يخيل إليه وهم لا يرون الحق الواضح ولا يدركونه أن هنالك حائلاً عنيفاً كهذا بينهم وبينه‏.‏ وأنه إذا لم تكن هذه الأغلال في الأيدي، وإذا لم تكن الرؤوس مقمحة ومجبرة على الارتفاع، فإن نفوسهم وبصائرهم كذلك‏.‏‏.‏ مشدودة عن الهدى قسراً وملفوتة عن الحق لفتاً‏.‏ وبينها وبين دلائل الهدى سد من هنا وسد من هناك‏.‏ وكذلك كان أولئك الذين واجهوا هذا القرآن بمثل ذلك الإنكار والجحود‏.‏ وهو يصدع بالحجة، ويدلي بالبرهان‏.‏ وهو بذاته حجة ذات سلطان لا يتماسك لها إنسان‏.‏

‏{‏وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم فهم لا يؤمنون‏}‏‏.‏‏.‏

فلقد قضى الله فيهم بأمره، بما علمه من طبيعة قلوبهم التي لا ينفذ إليها الإيمان‏.‏ ولا ينفع الإنذار قلباً غير مهيأ للإيمان، مشدود عنه، محال بينه وبينه بالسدود‏.‏

فالإنذار لا يخلق القلوب، إنما يوقظ القلب الحي المستعد للتلقي‏:‏

‏{‏إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، فبشره بمغفرة وأجر كريم‏}‏‏.‏‏.‏

والذكر يراد به هنا القرآن على الأرجح والذي اتبع القرآن، وخشي الرحمن دون أن يراه، هو الذي ينتفع بالإنذار، فكأنه هو وحده الذي وجه إليه الإنذار‏.‏ وكأنما الرسول صلى الله عليه وسلم قد خصه به، وإن كان قد عمم‏.‏ إلا أن أولئك حيل بينهم وبين تلقيه، فانحصر في من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب‏.‏ وهذا يستحق التبشير بعد انتفاعه بالانذار‏:‏ ‏{‏فبشره بمغفرة وأجر كريم‏}‏‏.‏‏.‏ المغفرة عما يقع فيه من الخطايا غير مصر‏.‏ والأجر الكريم على خشية الرحمن بالغيب، واتباعه لما أنزل الرحمن من الذكر‏.‏ وهما متلازمان في القلب‏.‏ فما تحل خشية الله في قلب إلا ويتبعها العمل بما أنزل‏.‏ والاستقامة على النهج الذي أراد‏.‏

وهنا يؤكد وقوع البعث؛ ودقة الحساب، الذي لا يفوته شيء‏:‏

‏{‏إنا نحن نحيي الموتى، ونكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين‏}‏‏.‏‏.‏

وإحياء الموتى هو إحدى القضايا التي استغرقت جدلاً طويلاً‏.‏ وسيرد منه في هذه السورة أمثلة منوعة‏.‏ وهو ينذرهم أن كل ما قدمت أيديهم من عمل، وكل ما خلفته أعمالهم من آثار، كلها تكتب وتحصى‏.‏ فلا يند منها شيء ولا ينسى‏.‏ والله سبحانه هو الذي يحيي الموتى، وهو الذي يكتب ما قدموا وآثارهم، وهو الذي يحصي كل شيء ويثبته‏.‏ فلا بد إذن من وقوع هذا كله على الوجه الذي يليق بكل ما تتولاه يد الله‏.‏

والإمام المبين‏.‏ واللوح المحفوظ‏.‏ وأمثالها‏.‏ أقرب تفسير لها هو علم الله الأزلي القديم وهو بكل شيء محيط‏.‏

وبعد عرض قضية الوحي والرسالة، وقضية البعث والحساب، في هذه الصورة التقريرية، يعود السياق ليعرضهما في صورة قصصية‏.‏ تلمس القلب بما كان من مواقف التكذيب والإيمان وعواقبهما معروضة كالعيان‏:‏

‏{‏واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون‏.‏ إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث، فقالوا‏:‏ إنا إليكم مرسلون‏.‏ قالوا‏:‏ ما أنتم إلا بشر مثلنا، وما أنزل الرحمن من شيء، إن أنتم إلا تكذبون‏.‏ قالوا‏:‏ ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون‏.‏ وما علينا إلا البلاغ المبين‏.‏ قالوا‏:‏ إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم‏.‏ قالوا‏:‏ طائركم معكم، أإن ذكرتم‏؟‏ بل أنتم قوم مسرفون‏}‏‏.‏‏.‏

ولم يذكر القرآن من هم أصحاب القرية ولا ما هي القرية‏.‏ وقد اختلفت فيها الروايات‏.‏ ولا طائل وراء الجري مع هذه الروايات‏.‏

وعدم إفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها أو موضعها لا يزيد شيئاً في دلالة القصة وإيحائها‏.‏ ومن ثم أغفل التحديد، ومضى إلى صميم العبرة ولبابها‏.‏ فهي قرية أرسل الله إليها رسولين‏.‏

كما أرسل موسى وأخاه هارون عليهما السلام إلى فرعون وملئه‏.‏ فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله برسول ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله‏.‏ وتقدموا ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد ‏{‏فقالوا‏:‏ إنا إليكم مرسلون‏}‏‏.‏‏.‏

هنا اعترض أهل القرية عليهم بالاعتراضات المكرورة في تاريخ الرسل والرسالات‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ ما أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وما أنزل الرحمن من شيء‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏إن أنتم إلا تكذبون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا الاعتراض المتكرر على بشرية الرسل تبدو فيه سذاجة التصور والإدراك، كما يبدو فيه الجهل بوظيفة الرسول‏.‏ فقد كانوا يتوقعون دائماً أن يكون هناك سر غامض في شخصية الرسول وحياته تكمن وراءه الأوهام والأساطير‏.‏‏.‏ أليس رسول السماء إلى الأرض فكيف لا تحيط به الأوهام والأساطير‏؟‏ كيف يكون شخصية مكشوفة بسيطة لا أسرار فيها ولا ألغاز حولها‏؟‏‏!‏ شخصية بشرية عادية من الشخصيات التي تمتلئ بها الأسواق والبيوت‏؟‏‏!‏

وهذه هي سذاجة التصور والتفكير‏.‏ فالأسرار والألغاز ليست صفة ملازمة للنبوة والرسالة‏.‏ وليست في هذه الصورة الساذجة الطفولية‏.‏ وإن هنالك لسراً هائلاً ضخماً، ولكنه يتمثل في الحقيقة البسيطة الواقعة‏.‏ حقيقة إيداع إنسان من هؤلاء البشر الاستعداد اللدني الذي يتلقى به وحي السماء، حين يختاره الله لتلقي هذا الوحي العجيب‏.‏ وهو أعجب من أن يكون الرسول ملكاً كما كانوا يقترحون‏!‏

والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية‏.‏ وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي‏.‏ النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به‏.‏ وهم بشر‏.‏ فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون هم أن يقلدوه‏.‏

ومن ثم كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم معروضة لأنظار أمته‏.‏ وسجل القرآن كتاب الله الثابت المعالم الرئيسية في هذه الحياة بأصغر تفصيلاتها وأحداثها، بوصفها تلك الصفحة المعروضة لأنظار أمته على مدار السنين والقرون‏.‏ ومن هذه التفصيلات حياته المنزلية والشخصية‏.‏ حتى خطرات قلبه سجلها القرآن في بعض الأحيان، لتطلع عليها الأجيال وترى فيها قلب ذلك النبي الإنسان‏.‏

ولكن هذه الحقيقة الواضحة القريبة هي التي ظلت موضع الاعتراض من بني الإنسان‏!‏

ولقد قال أهل تلك القرية لرسلهم الثلاثة‏:‏ ‏{‏ما أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏‏.‏‏.‏ وقصدوا أنكم لستم برسل‏.‏‏.‏ ‏{‏وما أنزل الرحمن من شيء‏}‏‏.‏‏.‏ مما تدعون أنه نزله عليكم من الوحي والأمر بأن تدعونا إليه‏.‏ ‏{‏إن أنتم إلا تكذبون‏}‏‏.‏‏.‏ وتدعون أنكم مرسلون‏!‏

وفي ثقة المطمئن إلى صدقه، العارف بحدود وظيفته أجابهم الرسل‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون‏.‏ وما علينا إلا البلاغ المبين‏}‏‏.‏‏.‏

إن الله يعلم‏.‏ وهذا يكفي‏.‏ وإن وظيفة الرسل البلاغ‏.‏ وقد أدوه‏.‏ والناس بعد ذلك أحرار فيما يتخذون لأنفسهم من تصرف‏.‏ وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار‏.‏ والأمر بين الرسل وبين الناس هو أمر ذلك التبليغ عن الله؛ فمتى تحقق ذلك فالأمر كله بعد ذلك إلى الله‏.‏

ولكن المكذبين الضالين لا يأخذون الأمور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير؛ ولا يطيقون وجود الدعاة إلى الهدى؛ فتأخذهم العزة بالإثم؛ ويعمدون إلى الأسلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لأن الباطل ضيق الصدر عربيد‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ إنا تطيرنا بكم‏!‏ لئن لم تنتهوا لنرجمنكم، وليمسنكم منا عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

قالوا‏:‏ إننا نتشاءم منكم؛ ونتوقع الشر في دعوتكم؛ فإن لم تنتهوا عنها فإننا لن نسكت عليكم، ولن ندعكم في دعوتكم‏:‏ ‏{‏لنرجمنكم، وليمسنكم منا عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا أسفر الباطل عن غشمه؛ وأطلق على الهداة تهديده؛ وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة، وعربد في التعبير والتفكير‏!‏

ولكن الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ طائركم معكم‏}‏‏.‏‏.‏

فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية‏.‏ والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة؛ وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم‏.‏ إنما هو معهم‏.‏ مرتبط بنواياهم وأعمالهم، متوقف على كسبهم وعملهم‏.‏ وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيراً أو أن يجعلوه شراً‏.‏ فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه، ومن خلال اتجاهه، ومن خلال عمله‏.‏ وهو يحمل طائره معه‏.‏ هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على أساس صحيح‏.‏ أما التشاؤم بالوجوه، أو التشاؤم بالأمكنة، أو التشاؤم بالكلمات‏.‏‏.‏ فهو خرافة لا تستقيم على أصل مفهوم‏!‏

وقالوا لهم‏:‏ ‏{‏أإن ذكرتم‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

يعني أترجموننا وتعذبوننا لأننا نذكركم‏!‏ أفهذا جزاء التذكير‏؟‏

‏{‏بل أنتم قوم مسرفون‏}‏‏.‏‏.‏

تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير؛ وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد؛ وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب‏!‏

تلك كانت الاستجابة من القلوب المغلقة على دعوة الرسل‏.‏ وهي مثل للقلوب التي تحدثت عنها السورة في الجولة الأولى؛ وصورة واقعية لذلك النموذج البشري المرسوم هناك‏.‏

فأما النموذج الآخر الذي اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، فكان له مسلك آخر وكانت له استجابة غير هذه الاستجابة‏:‏

‏{‏وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى؛ قال‏:‏ يا قوم اتبعوا المرسلين‏.‏ اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون‏.‏ ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون‏؟‏ أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون‏؟‏ إني إذاً لفي ضلال مبين‏.‏ إني آمنت بربكم فاسمعون‏}‏‏.‏‏.‏

إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة‏.‏ فيها الصدق‏.‏ والبساطة‏.‏ والحرارة‏.‏ واستقامة الإدراك‏.‏ وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين‏.‏

فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه‏.‏ وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتاً؛ ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور؛ ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره‏.‏

سعى به إلى قومه وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون‏.‏ وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين‏.‏

وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان‏.‏ ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته‏.‏ ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها‏.‏‏.‏

‏{‏قال‏:‏ يا قوم اتبعوا المرسلين‏.‏ اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الذي يدعو مثل هذه الدعوة، وهو لا يطلب أجراً، ولا يبتغي مغنماً‏.‏‏.‏ إنه لصادق‏.‏ وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفاً من الله‏؟‏ ما الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة‏؟‏ ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة‏؟‏ والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم، وهو لا يجني من ذلك كسباً، ولا يطلب منهم أجراً‏؟‏

‏{‏اتبعوا من لا يسألكم أجراً‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وهم مهتدون‏}‏‏.‏‏.‏

وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم‏.‏ فهم يدعون إلى إله واحد‏.‏ ويدعون إلى نهج واضح‏.‏ ويدعون إلى عقيدة لا خرافة فيها ولا غموض‏.‏ فهم مهتدون إلى نهج سليم، وإلى طريق مستقيم‏.‏

ثم عاد يتحدث إليهم عن نفسه هو وعن أسباب إيمانه، ويناشد فيهم الفطرة التي استيقظت فيه فاقتنعت بالبرهان الفطري السليم‏:‏

‏{‏وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون‏؟‏ أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون‏؟‏ إني إذاً لفي ضلال مبين‏}‏‏.‏‏.‏

إنه تساؤل الفطرة الشاعرة بالخالق، المشدودة إلى مصدر وجودها الوحيد‏.‏‏.‏ ‏{‏وما لي لا أعبد الذي فطرني‏؟‏‏}‏ وما الذي يحيد بي عن هذا النهج الطبيعي الذي يخطر على النفس أول ما يخطر‏؟‏ إن الفطر مجذوبة إلى الذي فطرها، تتجه إليه أول ما تتجه، فلا تنحرف عنه إلا بدافع آخر خارج على فطرتها‏.‏ ولا تلتوي إلا بمؤثر آخر ليس من طبيعتها‏.‏ والتوجه إلى الخالق هو الأَوْلى، وهو الأول، وهو المتجه الذي لا يحتاج إلى عنصر خارج عن طبيعة النفس وانجذابها الفطري‏.‏ والرجل المؤمن يحس هذا في قرارة نفسه، فيعبر عنه هذا التعبير الواضح البسيط، بلا تكلف ولا لف ولا تعقيد‏!‏

وهو يحس بفطرته الصادقة الصافية كذلك أن المخلوق يرجع إلى الخالق في النهاية‏.‏ كما يرجع كل شيء إلى مصدره الأصيل‏.‏ فيقول‏:‏

‏{‏وإليه ترجعون‏}‏‏.‏‏.‏

ويتساءل لم لا أعبد الذي فطرني، والذي إليه المرجع والمصير‏؟‏ ويتحدث عن رجعتهم هم إليه‏.‏ فهو خالقهم كذلك‏.‏ ومن حقه أن يعبدوه‏.‏

ثم يستعرض النهج الآخر المخالف للمنهج الفطري المستقيم‏.‏ فيراه ضلالاً بيناً‏:‏ ‏{‏أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهل أضل ممن يدع منطق الفطرة الذي يدعو المخلوق إلى عبادة خالقه، وينحرف إلى عبادة غير الخالق بدون ضرورة ولا دافع‏؟‏ وهل أضل ممن ينحرف عن الخالق إلى آلهة ضعاف لا يحمونه ولا يدفعون عنه الضر حين يريد به خالقه الضر بسبب انحرافه وضلاله‏؟‏

‏{‏إني إذاً لفي ضلال مبين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 68‏]‏

‏{‏يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏30‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏31‏)‏ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏32‏)‏ وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ‏(‏33‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ‏(‏34‏)‏ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ‏(‏35‏)‏ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏38‏)‏ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ‏(‏39‏)‏ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏40‏)‏ وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏41‏)‏ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ ‏(‏43‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏45‏)‏ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏46‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏47‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ‏(‏49‏)‏ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏50‏)‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ‏(‏51‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏52‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏53‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏54‏)‏ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ‏(‏55‏)‏ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ‏(‏56‏)‏ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ‏(‏57‏)‏ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ‏(‏58‏)‏ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏59‏)‏ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏60‏)‏ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ‏(‏62‏)‏ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏64‏)‏ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ‏(‏66‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ‏(‏67‏)‏ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

بعد الحديث في الدرس الأول عن المشركين الذين واجهوا دعوة الإسلام بالتكذيب؛ والمثل الذي ضربه لهم في قصة أصحاب القرية المكذبين؛ وما انتهى إليه أمرهم ‏{‏فإذا هم خامدون‏}‏ يبدأ الحديث في هذا الدرس بالتعميم في موقف المكذبين بكل ملة ودين؛ ويعرض صورة البشرية الضالة على مدار القرون، وينادي على العباد نداء الحسرة وهم لا يتعظون بمصارع الهالكين، الذين يذهبون أمامهم ولا يرجعون إلا يوم الدين‏:‏ ‏{‏وإن كل لما جميع لدينا محضرون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يأخذ في استعراض الآيات الكونية التي يمرون عليها معرضين غافلين؛ وهي مبثوثة في أنفسهم وفيما حولهم وفي تاريخهم القديم‏.‏‏.‏ وهم مع هذا لا يشعرون؛ وإذا ذكروا لا يذكرون ‏{‏وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين‏}‏‏.‏‏.‏ وهم يستعجلون بالعذاب غير مصدقين‏:‏ ‏{‏ويقولون‏:‏ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏

وبمناسبة الاستعجال والتكذيب يستعرض مشهداً مطولاً من مشاهد القيامة يرون فيه مصيرهم الذي به يستعجلون، كأنه حاضر تراه العيون‏.‏

‏{‏يا حسرة على العباد‏!‏ ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون‏.‏ ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون‏؟‏ وإن كل لما جميع لدينا محضرون‏}‏‏.‏‏.‏

والحسرة انفعال نفسي على حال مؤسفة لا يملك الإنسان شيئاً حيالها، سوى أن يتحسر وتألم نفسه‏.‏ والله سبحانه وتعالى لا يتحسر على العباد؛ ولكنه يقرر أن حالة هؤلاء العباد مما يستحق حسرة المتحسرين‏!‏ فهي حال بائسة مؤسفة تنتهي بأصحابها إلى شر وخيم وبلاء عظيم‏!‏

يا حسرة على العباد تتاح لهم فرصة النجاة فيعرضون عنها، وأمامهم مصارع الهالكين قبلهم لا يتدبرونها ولا ينتفعون بها‏.‏ ويفتح الله لهم أبواب رحمته بإرسال الرسل إليهم الحين بعد الحين؛ ولكنهم يتجافون أبواب الرحمة ويسيئون الأدب مع الله‏:‏ ‏{‏ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان في هلاك الأولين الذاهبين لا يرجعون، على مدار السنين وتطاول القرون‏.‏‏.‏ لقد كان في هذا عظة لمن يتدبر‏.‏ ولكن العباد البائسين لا يتدبرون‏.‏ وهم صائرون إلى ذات المصير‏.‏ فأية حالة تدعو إلى الحسرة كهذا الحال الأسيف‏؟‏‏!‏

إن الحيوان ليرجف حين يرى مصرع أخيه أمامه؛ ويحاول أن يتوقاه قدر ما يستطيع‏.‏ فما بال الإنسان يرى المصارع تلو المصارع، ثم يسير مندفعاً في ذات الطريق‏؟‏ والغرور يملي له ويخدعه عن رؤية المصير المطروق‏!‏ وهذا الخط الطويل من مصارع القرون معروض على الأنظار ولكن العباد كأنهم عمي لا يبصرون‏!‏

وإذا كان الهالكون الذاهبون لا يرجعون إلى خلفائهم المتأخرين، فإنهم ليسوا بمتروكين ولا مفلتين من حساب الله بعد حين‏.‏‏.‏

‏{‏وإن كل لما جميع لدينا محضرون‏}‏‏.‏

‏{‏وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون؛ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب، وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون‏؟‏ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم يكذبون الرسل، ولا يتدبرون مصارع المكذبين، ولا يدركون دلالة كونهم يذهبون ولا يرجعون‏.‏ والرسل إنما يدعونهم إلى الله‏.‏ وكل ما في الوجود حولهم يحدثهم عن الله، ويدل عليه ويشهد بوجوده‏.‏ وهذه هي الأرض القريبة منهم، يرونها ميتة لا حياة فيها، ولا ماء ينشئ الحياة، ثم يرونها حية تنبت الحب، وتزدان بالجنات من نخيل وأعناب، وتتفجر فيها العيون، فتجري بالحياة حيث تجري‏.‏

والحياة معجزة لا تملك يد البشر أن تجريها؛ إنما هي يد الله التي تجري المعجزات، وتبث روح الحياة في الموات‏.‏ وإن رؤية الزرع النامي، والجنان الوارفة، والثمر اليانع، لتفتح العين والقلب على يد الله المبدعة، وهي تشق التربة عن النبتة المتطلعة للحرية والنور، وتنضر العود المستشرف للشمس والضياء، وتزين الغصن اللدن بالورق والثمار، وتفتح الزهرة وتنضج الثمرة، وتهيئها للجني والقطاف‏.‏‏.‏ ‏{‏ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم‏}‏‏.‏‏.‏ ويد الله هي التي أقدرتهم على العمل، كما أقدرت الزرع على الحياة والنماء‏!‏ ‏{‏أفلا يشكرون‏}‏‏.‏

ويلتفت عنهم بعد هذه اللمسة الرفيقة ليسبح الله الذي أطلع لهم النبت والجنان، وجعل الزرع أزواجاً ذكراناً وإناثاً كالناس وكغيرهم من خلق الله الذي لا يعلمه سواه‏:‏

‏{‏سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه التسبيحة تنطلق في أوانها وفي موضعها؛ وترتسم معها حقيقة ضخمة من حقائق هذا الوجود‏.‏ حقيقة وحدة الخلق‏.‏‏.‏ وحدة القاعدة والتكوين‏.‏‏.‏ فقد خلق الله الأحياء أزواجاً‏.‏ النبات فيها كالإنسان‏.‏ ومثل ذلك غيرهما‏.‏‏.‏ ‏{‏ومما لا يعلمون‏}‏‏.‏ وإن هذه الوحدة لتشي بوحدة اليد المبدعة‏.‏ التي توجد قاعدة التكوين مع اختلاف الأشكال والأحجام والأنواع والأجناس، والخصائص والسمات، في هذه الأحياء التي لا يعلم علمها إلا الله‏.‏‏.‏

ومن يدري فربما كانت هذه قاعدة الكون كله حتى الجماد‏!‏ وقد أصبح معلوماً أن الذرة أصغر ما عرف من قبل من أجزاء المادة مؤلفة من زوجين مختلفين من الإشعاع الكهربي، سالب وموجب يتزاوجان ويتحدان‏!‏ كذلك شوهدت ألوف من الثنائيات النجمية‏.‏ تتألف من نجمين مرتبطين يشد بعضهما بعضاً، ويدوران في مدار واحد كأنما يوقعان نغمة رتيبة‏!‏

تلك آية الأرض الميتة تنبثق فيها الحياة‏.‏‏.‏ ومنها إلى آية السماء وما يتعلق بها من ظواهر يراها العباد رأي العين، ويد الله تجريها بالخوارق المعجزات‏:‏

‏{‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم‏.‏ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم‏.‏ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون‏}‏‏.‏

ومشهد قدوم الليل، والنور يختفي والظلمة تغشى‏.‏‏.‏ مشهد مكرور يراه الناس في كل بقعة في خلال أربع وعشرين ساعة ‏(‏فيما عدا بعض المواقع التي يدوم فيها النهار كما يدوم فيها الليل أسابيع وأشهراً قرب القطبين في الشمال والجنوب‏)‏ وهو مع تكراره اليومي عجيبة تدعو إلى التأمل والتفكير‏.‏

والتعبير القرآني عن هذه الظاهرة في هذا الموضع تعبير فريد‏.‏ فهو يصور النهار متلبساً بالليل؛ ثم ينزع الله النهار من الليل فإذا هم مظلمون‏.‏ ولعلنا ندرك شيئاً من سر هذا التعبير الفريد حين نتصور الأمر على حقيقته‏.‏ فالأرض الكروية في دورتها حول نفسها في مواجهة الشمس تمر كل نقطة منها بالشمس؛ فإذا هذه النقطة نهار؛ حتى إذا دارت الأرض وانزوت تلك النقطة عن الشمس، انسلخ منها النهار ولفها الظلام وهكذا تتوالى هذه الظاهرة على كل نقطة بانتظام وكأنما نور النهار ينزع أو يسلخ فيحل محله الظلام‏.‏ فهو تعبير مصور للحقيقة الكونية أدق تصوير‏.‏

‏{‏والشمس تجري لمستقر لها‏}‏‏.‏‏.‏

والشمس تدور حول نفسها‏.‏ وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها‏.‏ ولكن عرف أخيراً أنها ليست مستقرة في مكانها‏.‏ إنما هي تجري‏.‏ تجري فعلاً‏.‏ تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلاً في الثانية‏!‏ والله ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها يقول‏:‏ إنها تجري لمستقر لها‏.‏ هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا هو سبحانه‏.‏ ولا يعلم موعده سواه‏.‏

وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه‏.‏ وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، ندرك طرفاً من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم‏:‏

‏{‏ذلك تقدير العزيز العليم‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم‏}‏‏.‏‏.‏

والعباد يرون القمر في منازله تلك‏.‏ يولد هلالاً‏.‏ ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتى يستدير بدراً‏.‏ ثم يأخذ في التناقص حتى يعود هلالاً مقوساً كالعرجون القديم‏.‏ والعرجون هو العذق الذي يكون فيه البلح من النخلة‏.‏

والذي يلاحظ القمر ليلة بعد ليلة يدرك ظل التعبير القرآني العجيب‏:‏ ‏{‏حتى عاد كالعرجون القديم‏}‏‏.‏‏.‏

وبخاصة ظل ذلك اللفظ ‏{‏القديم‏}‏‏.‏ فالقمر في لياليه الأولى هلال‏.‏ وفي لياليه الأخيرة هلال‏.‏‏.‏ ولكنه في الأولى يبدو وكأن فيه نضارة وفتوة‏.‏ وفي الأخيرة يطلع وكأنما يغشاه سهوم ووجوم، ويكسوه شحوب وذبول‏.‏ ذبول العرجون القديم‏!‏ فليست مصادفة أن يعبر القرآن الكريم عنه هذا التعبير الموحي العجيب‏!‏

والحياة مع القمر ليلة بعد ليلة تثير في الحس مشاعر وخواطر ندية ثرية موحية عميقة‏.‏ والقلب البشري الذي يعيش مع القمر دورة كاملة، لا ينجو من تأثرات واستجابات، ومن سبحات مع اليد المبدعة للجمال والجلال؛ المدبرة للأجرام بذلك النظام‏.‏

سواء كان يعلم سر هذه المنازل والأشكال القمرية المختلفة أو لا يعلم‏.‏ فالمشاهدة وحدها كفيلة بتحريك القلب، واستجاشة الشعور، وإثارة التدبر والتفكير‏.‏

وأخيراً يقرر دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق‏:‏

‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون‏}‏‏.‏‏.‏

ولكل نجم أو كوكب فلك، أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه‏.‏ والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة‏.‏ فالمسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليوناً من الأميال‏.‏ والقمر يبعد عن الأرض بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال‏.‏‏.‏ وهذه المسافات على بعدها ليست شيئاً يذكر حين تقاس إلى بعد ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا‏.‏ وهو يقدر بنحو أربع سنوات ضوئية‏.‏ وسرعة الضوء تقدر بستة وثمانين ومائة ألف من الأميال في الثانية الواحدة‏!‏ ‏(‏أي إن أقرب نجم إلينا يبعد عنا بنحو مائة وأربعة مليون مليون ميل‏!‏‏)‏‏.‏

وقد قدر الله خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب‏.‏ ووضع تصميم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع حتى يأتي الأجل المعلوم فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر‏.‏ والليل لا يسبق النهار، ولا يزحمه في طريقه، لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبداً فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان‏!‏

‏{‏وكل في فلك يسبحون‏}‏‏.‏‏.‏

وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح‏.‏ فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطاً سابحة في ذلك الفضاء المرهوب‏.‏

وإن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة، والكواكب السيارة‏.‏ متناثرة في ذلك الفضاء، سابحة في ذلك الخضم، والفضاء من حولها فسيح فسيح وأحجامها الضخمة تائهة في ذلك الفضاء الفسيح‏!‏‏!‏‏!‏

‏{‏وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون، إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين‏}‏‏.‏‏.‏

إن في السياق مناسبة لطيفة بين النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها، والفلك المشحون السابح في الماء يحمل ذرية بني آدم‏!‏ مناسبة في الشكل، ومناسبة في الحركة، ومناسبة في تسخير هذا وذلك بأمر الله، وحفظه بقدرته في السماوات والأرض سواء‏.‏

وهذه آية كتلك يراها العباد ولا يتدبرونها‏.‏ بل هذه أقرب إليهم وأيسر تدبراً لو فتحوا قلوبهم للآيات‏.‏

ولعل الفلك المشحون المذكور هنا هو فلك نوح أبي البشر الثاني؛ الذي حمل فيه ذرية آدم‏.‏ ثم جعل الله لهم من مثله هذه السفن التي تمخر بهم العباب‏.‏

وهؤلاء وهؤلاء حملتهم قدرة الله ونواميسه التي تحكم الكون وتصرفه؛ وتجعل الفلك يعوم على وجه الماء، بحكم خواص الفلك، وخواص الماء، وخواص الريح أو البخار، أو الطاقة المنطلقة من الذرة، أو غيرها من القوى‏.‏ وكلها من أمر الله وخلقه وتقديره‏.‏

‏{‏وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون‏.‏ إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين‏}‏‏.‏‏.‏ والسفينة في الخضم كالريشة في مهب الريح، مهما ثقلت وضخمت وأتقن صنعها‏.‏ وإلا تدركها رحمة الله فهي هالكة هالكة في لحظة من ليل أو نهار‏.‏ والذين ركبوا البحار سواء عبروها في قارب ذي شراع أو في عابرة ضخمة للمحيط، يدركون هول البحر المخيف؛ وضآلة العصمة من خطره الهائل وغضبه الجبار‏.‏ ويحسون معنى رحمة الله؛ وأنها وحدها العاصم بين العواصف والتيارات في هذا الخلق الهائل الذي تمسك يد الرحمة الإلهية عنانه الجامح، ولا تمسكه يد سواها في أرض أو سماء‏.‏ وذلك حتى يقضي الكتاب أجله، ويحل الموعد المقدور في حينه، وفق ما قدره الحكيم الخبير‏:‏ ‏{‏ومتاعاً إلى حين‏}‏‏.‏‏.‏

ومع تلك الآيات الواضحات فالعباد في غفلة، لا تتوجه أنظارهم، ولا تستيقظ قلوبهم؛ ولا يكفون عن سخريتهم وتكذيبهم، واستعجالهم بالعذاب الذي ينذرهم به المرسلون‏:‏

‏{‏وإذا قيل لهم‏:‏ اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون‏.‏ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين‏.‏ وإذا قيل لهم‏:‏ أنفقوا مما رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه‏؟‏ إن أنتم إلا في ضلال مبين‏.‏ ويقولون‏:‏ متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إن تلك الآية بذاتها لا تثير في قلوبهم التطلع والتدبر والحساسية والتقوى‏.‏ وهي بذاتها كافية أن تثير في القلب المفتوح هزة ورعشة وانتفاضة؛ وأن تخلطه بهذا الوجود‏.‏ هذا الكتاب المفتوح الذي تشير كل صفحة من صفحاته إلى عظمة الخالق، ولطيف تدبيره وتقديره‏.‏ ولكن هؤلاء المطموسين لا يرونها‏.‏ وإذا رأوها لا يتدبرونها‏.‏ والله لعظيم رحمته لا يتركهم مع هذا بلا رسول ينذرهم ويوجههم ويدعوهم إلى رب هذا الكون وبارئ هذا الوجود‏.‏ ويثير في قلوبهم الحساسية والخوف والتقوى ويحذرهم موجبات الغضب والعذاب، وهي محيطة بهم، من بين أيديهم ومن خلفهم، إلا ينتبهوا لها يقعوا فيها في كل خطوة من خطواتهم‏.‏ وتتوالى عليهم الآيات مضافة إلى الآيات الكونية التي تحيط بهم في حيثما يتجهون‏.‏ ولكنهم مع هذا يظلون في عمايتهم سادرين‏:‏

‏{‏وإذا قيل لهم‏:‏ اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون‏.‏ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين‏}‏‏.‏‏.‏

وإذا دعوا إلى إنفاق شيء من مالهم لإطعام الفقراء‏:‏ قالوا ساخرين متعنتين‏:‏

‏{‏أنطعم من لو يشاء الله أطعمه‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وتطاولوا على من يدعونهم إلى البر والإنفاق قائلين‏:‏

‏{‏إن أنتم إلا في ضلال مبين‏}‏ ‏!‏

وتصورهم للأمر على هذا النحو الآلي يشي بعدم إدراكهم لسنن الله في حياة العباد‏.‏

فالله هو مطعم الجميع، وهو رازق الجميع‏.‏ وكل ما في الأرض من أرزاق ينالها العباد هي من خلقه، فلم يخلقوا هم لأنفسهم منها شيئاً، وما هم بقادرين على خلق شيء أصلاً‏.‏ ولكن مشيئة الله في عمارة هذه الأرض اقتضت أن تكون للناس حاجات لا ينالونها إلا بالعمل والكد؛ وفلاحة هذه الأرض؛ وصناعة خاماتها؛ ونقل خيراتها من مكان إلى مكان، وتداول هذه الخيرات وما يقابلها من سلعة أو نقد أو قيم تختلف باختلاف الزمان والمكان‏.‏ كما اقتضت أن يتفاوت الناس في المواهب والاستعدادات وفق حاجات الخلافة الكاملة في هذه الأرض‏.‏ وهذه الخلافة لا تحتاج إلى المواهب والاستعدادات المتعلقة بجمع المال والأرزاق وحدها، إنما تحتاج إلى مواهب واستعدادات أخرى قد تحقق ضرورات أساسية لخلافة الجنس الإنساني في الأرض، بينما يفوتها جمع المال والأرزاق ويعوزها‏!‏

وفي خلال هذا الخضم الواسع لحاجات الخلافة ومطالبها، والمواهب والاستعدادات اللازمة لها، وما يترتب على هذه وتلك من تداول للمنافع والأرزاق، وتصارع وتضارب في الأنصبة والحظوظ‏.‏‏.‏ في خلال هذا الخضم الواسع المترابط الحلقات لا في جيل واحد، بل في أجيال متعددة قريبة وبعيدة، ماضية وحاضرة ومستقبلة‏.‏‏.‏ في خلال هذا الخضم تتفاوت الأرزاق في أيدي العباد‏.‏‏.‏ ولكي لا ينتهي هذا التفاوت إلى إفساد الحياة والمجتمع، بينما هو ناشئ أصلاً من حركة الحياة لتحقيق خلافة الإنسان في الأرض، يعالج الإسلام الحالات الفردية الضرورية بخروج أصحاب الثراء عن قدر من مالهم يعود على الفقراء ويكفل طعامهم وضرورياتهم‏.‏ وبهذا القدر تصلح نفوس كثيرة من الفقراء والأغنياء سواء‏.‏ فقد جعله الإسلام زكاة‏.‏ وجعل في الزكاة معنى الطهارة‏.‏ وجعلها كذلك عبادة‏.‏ وألف بها بين الفقراء والأغنياء في مجتمعه الفاضل الذي ينشئه على غير مثال‏.‏

فقولة أولئك المحجوبين عن إدراك حكمة الله في الحياة‏:‏ ‏{‏أنطعم من لو يشاء الله أطعمه‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ وتطاولهم على الداعين إلى الإنفاق بقولهم‏:‏ ‏{‏إن أنتم إلا في ضلال مبين‏}‏‏.‏‏.‏ إن هو إلا الضلال المبين الحقيقي عن إدراك طبيعة سنن الله، وإدراك حركة الحياة، وضخامة هذه الحركة، وعظمة الغاية التي تتنوع من أجلها المواهب والاستعدادات، وتتوزع بسببها الأموال والأرزاق‏.‏

والإسلام يضع النظام الذي يضمن الفرص العادلة لكل فرد، ثم يدع النشاط الإنساني المتنوع اللازم للخلافة في الأرض يجري مجراه النظيف‏.‏ ثم يعالج الآثار السيئة بوسائله الواقية‏.‏

وأخيراً يجيء شكهم في الوعد، واستهزاؤهم بالوعيد‏:‏

‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ووعد الله لا يستقدم لاستعجال البشر؛ ولا يستأخر لرجائهم في تأخيره‏.‏ فكل شيء عند الله بمقدار‏.‏ وكل أمر مرهون بوقته المرسوم‏.‏ إنما تقع الأمور في مواعيدها وفق حكمة الله الأزلية التي تضع كل شيء في مكانه، وكل حادث في إبانه، وتمضي في تصريف هذا الكون وما فيه ومن فيه وفق النظام المقدر المرسوم في إمام مبين‏.‏

أما الرد على هذا السؤال المنكر فيجيء في مشهد من مشاهد القيامة يرون فيه كيف يكون، لا متى يكون‏.‏‏.‏

‏{‏ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون‏.‏ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون‏.‏ ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون‏.‏ قالوا‏:‏ يا ولينا‏!‏ من بعثنا من مرقدنا‏؟‏ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏.‏ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون‏}‏‏.‏‏.‏

يسأل المكذبون‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏‏.‏ فيكون الجواب مشهداً خاطفاً سريعاً‏.‏‏.‏ صيحة تصعق كل حي، وتنتهي بها الحياة والأحياء‏:‏

‏{‏ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون‏.‏ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون‏}‏‏.‏‏.‏

فهي تأخذهم بغتة وهم في جدالهم وخصامهم في معترك الحياة، لا يتوقعونها ولا يحسبون لها حساباً‏.‏ فإذا هم منتهون‏.‏ كل على حاله التي هو عليها‏.‏ لا يملك أن يوصي بمن بعده‏.‏ ولا يملك أن يرجع إلى أهله فيقول لهم كلمة‏.‏‏.‏ وأين هم‏؟‏ إنهم مثله في أماكنهم منتهون‏!‏

ثم ينفخ في الصور فإذا هم ينتفضون من القبور‏.‏ ويمضون سراعاً، وهم في دهش وذعر يتساءلون‏:‏ ‏{‏من بعثنا من مرقدنا‏؟‏‏}‏‏.‏ ثم تزول عنهم الدهشة قليلاً، فيدركون ويعرفون‏:‏ ‏{‏هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏}‏ ‏!‏

ثم إذا الصيحة الأخيرة‏.‏ صيحة واحدة‏.‏ فإذا هذا الشتيت الحائر المذهول المسارع في خطاه المدهوش‏.‏ يثوب‏:‏ ‏{‏فإذا هم جميع لدينا محضرون‏}‏‏.‏‏.‏ وتنتظم الصفوف، ويتهيأ الاستعراض في مثل لمح البصر ورجع الصدى‏.‏ وإذا القرار العلوي في طبيعة الموقف، وطبيعة الحساب والجزاء يعلن على الجميع‏:‏

‏{‏فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي هذه السرعة الخاطفة التي تتم بها تلك المشاهد الثلاثة تناسق في الرد على أولئك الشاكين المرتابين في يوم الوعد المبين‏!‏

ثم يطوي السياق موقف الحساب مع المؤمنين، ويعجل بعرض ما صاروا إليه من نعيم‏:‏

‏{‏إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون‏.‏ هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون‏.‏ لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون‏.‏ سلام قولاً من رب رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

إنهم مشغولون بما هم فيه من النعيم، ملتذون متفكهون‏.‏ وإنهم لفي ظلال مستطابة يستروحون نسيمها‏.‏‏.‏ وعلى أرائك متكئين في راحة ونعيم هم وأزواجهم‏.‏ لهم فيها فاكهة ولهم كل ما يشاءون؛ وهم ملاك محقق لهم فيها كل ما يدعون‏.‏ ولهم فوق اللذائذ التأهيل والتكريم‏:‏ ‏{‏سلام‏}‏‏.‏‏.‏ يتلقونه من ربهم الكريم‏:‏ ‏{‏قولاً من رب رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

فأما الآخرون فلا يطوي السياق موقف حسابهم، بل يعرضه ويبرز فيه التبكيت والتنكيل‏:‏

‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏.‏ ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 83‏]‏

‏{‏وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ‏(‏69‏)‏ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏70‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ‏(‏71‏)‏ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ‏(‏75‏)‏ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏77‏)‏ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ‏(‏78‏)‏ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ‏(‏80‏)‏ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏81‏)‏ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏82‏)‏ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة‏.‏‏.‏ قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية‏.‏ وقضية البعث والنشور‏.‏‏.‏ تستعرض في مقاطع مفصلة‏.‏ مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة‏.‏ كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها‏.‏ ويتمثل هذا المعنى مركزاً في النهاية في الآية التي تختم السورة‏:‏ ‏{‏فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم‏.‏ وهي خلقت الإنسان من نطفة‏.‏ وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة‏.‏ وهي جعلت من الشجر الأخضر ناراً‏.‏ وهي أبدعت السماوات والأرض‏.‏ وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود‏.‏‏.‏ وذلك قوام هذا المقطع الأخير‏.‏‏.‏

‏{‏وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

وردت قضية الوحي في أول السورة‏:‏ ‏{‏يس والقرآن الحكيم‏.‏ إنك لمن المرسلين‏.‏ على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم‏.‏ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر؛ ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر‏.‏

وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك‏.‏ وأن ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم قول غير معهود في لغتهم‏.‏ وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر‏.‏ إنما كان هذا طرفاً من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه صلى الله عليه وسلم في أوساط الجماهير‏.‏ معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه‏.‏

وهنا ينفي الله سبحانه أنه علم الرسول الشعر‏.‏ وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم‏.‏ فما يعلم أحد شيئاً إلا ما يعلمه الله‏.‏‏.‏

ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وما ينبغي له‏}‏ فللشعر منهج غير منهج النبوة‏.‏ الشعر انفعال‏.‏ وتعبير عن هذا الانفعال‏.‏ والانفعال يتقلب من حال إلى حال‏.‏ والنبوة وحي‏.‏ على منهج ثابت‏.‏ على صراط مستقيم‏.‏ يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله‏.‏ ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال‏.‏

والنبوة اتصال دائم بالله، وتلق مباشر عن وحي الله، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله‏.‏ بينما الشعر في أعلى صوره أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته‏.‏

فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد، وفورة لحم ودم‏!‏ فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس هذه في أعلى صورها أشواق تصعد من الأرض‏.‏ وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء‏.‏‏.‏

‏{‏إن هو إلا ذكر وقرآن مبين‏}‏‏.‏‏.‏

ذكر وقرآن‏.‏‏.‏ وهما صفتان لشيء واحد‏.‏ ذكر بحسب وظيفته‏.‏ وقرآن بحسب تلاوته‏.‏ فهو ذكر لله يشتغل به القلب، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان‏.‏ وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة‏:‏

‏{‏لينذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين‏}‏‏.‏‏.‏

ويضع التعبير القرآني الكفر في مقابل الحياة‏.‏ فيجعل الكفر موتاً، ويجعل استعداد القلب للإيمان حياة‏.‏ ويبين وظيفة هذا القرآن بأنه نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر من به حياة‏.‏ فيجدي فيهم الإنذار، فأما الكافروين فهم موتى لا يسمعون النذير؛ وظيفة القرآن بالقياس إليهم هي تسجيل الاستحقاق للعذاب، فإن الله لا يعذب أحداً حتى تبلغه الرسالة ثم يكفر عن بينة ويهلك بلا حجة ولا معذرة‏!‏

وهكذا لم يعلم الناس أنهم إزاء هذا القرآن فريقان‏:‏ فريق يستجيب فهو حي‏.‏ وفريق لا يستجيب فهو ميت‏.‏ ويعلم هذا الفريق أن قد حق عليه القول، وحق عليه العذاب‏!‏

والمقطع الثاني في هذا القطاع يعرض قضية الألوهية والوحدانية، في إطار من مشاهدات القوم، ومن نعم البارئ عليهم، وهم لا يشكرون‏:‏

‏{‏أو لم يروا أن خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون‏؟‏ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون‏.‏ ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون‏؟‏ واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون‏.‏ لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون‏.‏ فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون‏}‏‏.‏‏.‏

أو لم يروا‏؟‏ فآية الله هنا مشهودة منظورة بين أيديهم، ليست غائبة ولا بعيدة، ولا غامضة تحتاج إلى تدبر أو تفكير‏.‏‏.‏ إنها هذه الأنعام التي خلقها الله لهم وملكهم إياها‏.‏ وذللها لهم يركبونها ويأكلون منها ويشربون ألبانها، وينتفعون بها منافع شتى‏.‏‏.‏ وكل ذلك من قدرة الله وتدبيره؛ ومن إيداعه ما أودع من الخصائص في الناس وفي الأنعام، فجعلهم قادرين على تذليلها واستخدامها والانتفاع بها‏.‏ وجعلها مذللة نافعة ملبية لشتى حاجات الإنسان‏.‏ وما يملك الناس أن يصنعوا من ذلك كله شيئاً‏.‏ وما يملكون أن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له‏.‏ وما يملكون أن يذللوا ذبابة لم يركب الله في خصائصها أن تكون ذلولاً لهم‏!‏‏.‏‏.‏ ‏{‏أفلا يشكرون‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وحين ينظر الإنسان إلى الأمر بهذه العين وفي هذا الضوء الذي يشيعه القرآن الكريم‏.‏ فإنه يحس لتوه أنه مغمور بفيض من نعم الله‏.‏ فيض يتمثل في كل شيء حوله‏.‏ وتصبح كل مرة يركب فيها دابة، أو يأكل قطعة من لحم، أو يشرب جرعة من لبن، أو يتناول قطعة من سمن أو جبن‏.‏

أو يلبس ثوباُ من شعر أو صوف أو وبر‏.‏‏.‏ إلى آخره إلى آخره‏.‏‏.‏ لمسة وجدانية تشعر قلبه بوجود الخالق ورحمته ونعمته‏.‏ ويطرد هذا في كل ما تمس يده من أشياء حوله، وكل ما يستخدمه من حي أو جامد في هذا الكون الكبير‏.‏ وتعود حياته كلها تسبيحاً لله وحمداً وعبادة آناء الليل وأطراف النهار‏.‏‏.‏

ولكن الناس لا يشكرون‏.‏ وفيهم من اتخذ مع هذا كله آلهة من دون الله‏:‏ ‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون‏.‏ لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون‏}‏‏:‏ وفي الماضي كانت الآلهة أصناماً وأوثاناً، أو شجراً أو نجوماً، أو ملائكة أو جناً‏.‏‏.‏ والوثنية ما تزال حتى اليوم في بعض بقاع الأرض‏.‏ ولكن الذين لا يعبدون هذه الآلهة لم يخلصوا للتوحيد‏.‏ وقد يتمثل شركهم اليوم في الإيمان بقوى زائفة غير قوة الله؛ وفي اعتمادهم على أسناد أخرى غير الله‏.‏ والشرك ألوان، تختلف باختلاف الزمان والمكان‏.‏

ولقد كانوا يتخذون تلك الآلهة يبتغون أن ينالوا بها النصر‏.‏ بينما كانوا هم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة أن يعتدي عليها معتد أو يصيبها بسوء، فكانوا هم جنودها وحماتها المعدين لنصرتها‏:‏ ‏{‏وهم لهم جند محضرون‏}‏‏.‏‏.‏ وكان هذا غاية في سخف التصور والتفكير‏.‏ غير أن غالبية الناس اليوم لم ترتق عن هذا السخف إلا من حيث الشكل‏.‏ فالذين يؤلهون الطغاة والجبارين اليوم، لا يبعدون كثيراً عن عباد تلك الأصنام والأوثان‏.‏ فهم جند محضرون للطغاة‏.‏ وهم الذين يدفعون عنهم ويحمون طغيانهم‏.‏ ثم هم في الوقت ذاته يخرون للطغيان راكعين‏!‏

إن الوثنية هي الوثنية في شتى صورها‏.‏ وحيثما اضطربت عقيدة التوحيد الخالص أي اضطراب جاءت الوثنية، وكان الشرك، وكانت الجاهلية‏!‏ ولا عصمة للبشرية إلا بالتوحيد الخالص الذي يفرد الله وحده بالألوهية‏.‏ ويفرده وحده بالعبادة‏.‏ ويفرده وحده بالتوجه والاعتماد‏.‏ ويفرده وحده بالطاعة والتعظيم‏.‏

‏{‏فلا يحزنك قولهم‏.‏ إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون‏}‏‏.‏

الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يواجه أولئك الذين اتخذوا من دون الله آلهة‏.‏ والذين لا يشكرون ولا يذكرون‏.‏ ليطمئن بالاً من ناحيتهم‏.‏ فهم مكشوفون لعلم الله‏.‏ وكل ما يدبرونه وما يملكونه تحت عينه‏.‏ فلا على الرسول منهم‏.‏ وأمرهم مكشوف للقدرة القادرة‏.‏ والله من ورائهم محيط‏.‏‏.‏

ولقد هان أمرهم بهذا‏.‏ وما عاد لهم من خطر يحسه مؤمن يعتمد على الله‏.‏ وهو يعلم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون‏.‏ وأنهم في قبضته وتحت عينه وهم لا يشعرون‏!‏

والمقطع الثالث في هذا القطاع الأخير يتناول قضية البعث والنشور‏:‏

‏{‏أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين‏.‏ وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه‏.‏ قال‏:‏ من يحيي العظام وهي رميم‏؟‏ قل‏:‏ يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم‏.‏

الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون‏.‏ أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم‏؟‏ بلى وهو الخلاق العليم‏.‏ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له‏:‏ كن‏.‏ فيكون‏}‏‏.‏‏.‏

ويبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه‏.‏ وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعاً في حياته، ويشهده بعينه وحسه مكرراً معاداً‏.‏ ثم لا ينتبه إلى دلالته، ولا يتخذ منه مصداقاً لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره‏.‏‏.‏

‏{‏أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين‏}‏‏.‏‏.‏

فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب‏؟‏ إنها نقطة من ماء مهين، لا قوام ولا قيمة‏!‏ نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا‏.‏‏.‏ خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا‏.‏ ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل‏!‏

والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين‏.‏ وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير‏!‏ أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور‏؟‏

‏{‏وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال‏:‏ من يحيي العظام وهي رميم‏.‏ قل‏:‏ يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم‏}‏‏.‏‏.‏

يا للبساطة‏!‏ ويا لمنطق الفطرة‏!‏ ومنطق الواقع القريب المنظور‏!‏

وهل تزيد النطفة حيوية أو قدرة أو قيمة على العظم الرميم المفتوت‏؟‏ أو ليس من تلك النطفة كان الإنسان‏؟‏ أو ليست هذه هي النشأة الأولى‏؟‏ أو ليس الذي حول تلك النطفة إنساناً، وجعله خصيماً مبيناً بقادر على أن يحول العظم الرميم مخلوقاً حياً جديداً‏؟‏

إن الأمر أيسر وأظهر من أن يدور حوله سؤال‏.‏ فما بال الجدل الطويل‏؟‏‏!‏

‏{‏قل‏:‏ يحييها الذي أنشأها أول مرة‏.‏ وهو بكل خلق عليم‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يزيدهم إيضاحاً لطبيعة القدرة الخالقة، وصنعها فيما بين أيديهم وتحت أعينهم مما يملكون‏:‏

‏{‏الذي جعل لكم من الشجر الأخصر ناراً فإذا أنتم منه توقدون‏}‏‏.‏‏.‏

والمشاهدة الأولية الساذجة تقنع بصدق هذه العجيبة‏!‏ العجيبة التي يمرون عليها غافلين‏.‏ عجيبة أن هذا الشجر الأخضر الريان بالماء، يحتك بعضه ببعض فيولد ناراً؛ ثم يصير هو وقود النار‏.‏ بعد اللدونة والاخضرار‏.‏‏.‏ والمعرفة العلمية العميقة لطبيعة الحرارة التي يختزنها الشجر الأخضر من الطاقة الشمسية التي يمتصها، ويحتفظ بها وهو ريان بالماء ناضر بالخضرة؛ والتي تولد النار عند الاحتكاك، كما تولد النار عند الاحتراق‏.‏‏.‏ هذه المعرفة العلمية تزيد العجيبة بروزاً في الحس ووضوحاً‏.‏ والخالق هو الذي أودع الشجر خصائصه هذه‏.‏ والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏.‏ غير أننا لا نرى الأشياء بهذه العين المفتوحة ولا نتدبرها بذلك الحس الواعي‏.‏